إن مسؤولي الاستخبارات الأمريكية ينظرون إلى الشركة باعتبارها أداةً في أيدي الجيش الصيني، وتهديداً للأمن الوطني يجب وضعه تحت طائلة العقوبات ودفعه خارج شبكات الهواتف العالمية، أما «هواوي» فتعتبر نفسها شركة للتكنولوجيا ورائدة للأعمال، مدفوعة حصرياً بالبحوث، وأنها تأسست على احترام معايير الأعمال العالمية، وتعود ملكيتها إلى الموظفين، وتكرّس نفسها لخدمة احتياجات عملائها.
لكن الحكم بأن أياً من هذه النسخ لا يتوافق مع حقيقة «هواوي»، أو القول بما إن كان من الممكن استخدام معداتها للتجسس أو تهديد شبكات الاتصالات الوطنية، يتخطى قدرات الرجل العادي. فمعدات الاتصال ضرورية، بيد أنها غير مرئية حتى الآن.
كما لم يتم الإعلان بعد عن أية دلائل دامغة على احتواء معدات الجيل السابق لـ«هواوي» على باب خلفي للتجسس، لكن في الوقت نفسه يستحيل إثبات عدم وجودها أو أنها لن تكون موجودة، وهنا يكمن جزء من المشكلة التي تواجهها بالشركة.
ما يمكن أن نقوله، بقدر من الثقة، إن نسخة «هواوي» تبدو حقيقية لموظفيها الذين يزيدون على 200,000 موظف. وإذا ما كانت خدعة، فهي بالتأكيد مُتقنة ومترسخة. ويسلّط هذا الضوء على تكلفتين ناجمتين عن التوجه الحالي نحو «فك ارتباط» سلاسل التوريد بالصين.
الأولى، يؤدي إجبار شركة مبتكرة مثل «هواوي» على محاكاة تكنولوجيا فقدت إمكانية الوصول إليها جراء العقوبات، إلى إبعاد ميزانية بحوث تبلغ 23 مليار دولار سنوياً عن تطويرات من شأنها إفادة العالم أجمع. أما الثانية، فإن قطع الصلات بالقطاع الصيني الخاص الرائد للأعمال يعني أن الولايات المتحدة تدفع بمثل هذه الشركات إلى أحضان شريك حاولت باستماتة تفاديه فيما سبق، وهو الدولة الشيوعية الصينية.
ورغم معرفة الكثيرين بأن رين تشانغ فاي، مؤسس «هواوي» سبقت له الخدمة في جيش التحرير الشعبي الصيني، فإن تاريخ الشركة وهيكلها مختلفان تماماً عن شركات أخرى وطنية معروفة، مثل «سي آر آر سي» لبناء القطارات فائقة السرعة التي تديرها الدولة. والمسألة.
كما ترويها الشركة، أنها بدأت بإنتاج محولات للهاتف، رخيصة للتبادلات الهاتفية الريفية في ثمانينيات القرن المنصرم. وتمثّلت التحديات الأساسية التي واجهتها في الإمدادات غير الموثوقة للطاقة والتهام الفئران للكابلات. ثم تخبّطت «هواوي» بعد ذلك في سوق الهواتف النقالة الصينية في التسعينات، وخسرت أمام موردين غربيين، أمثال «نوكيا»، وكادت بالفعل تنهار مرات عدة.
لا يجعلها أي من ذلك تبدو كشركة مدعومة من الدولة، ولا حتى الطريقة التي انطلقت بها في النهاية. ودون الآفاق التي توفرت لها في الصين، لم تكن «هواوي» لتجوب العالم في العقد الأول من الألفية الثانية وهي تبيع شبكات الهاتف من الجيل الثالث أو تنجح في مسعاها، لأن منتجاتها تمتعت بقيمة جيدة وقدمت حلولاً لمشكلات مشغلي الهواتف.
وفي 2003، بعد أزمة الـ«دوت كوم»، كادت «هواوي» تباع لصالح «موتورولا» لقاء 7.5 مليارات دولار، بيد أن الجانب الأمريكي انسحب من الصفقة في نهاية المطاف.
وفي الآونة الأخيرة، صارت الشركة مهمة بالفعل على عدة مستويات للدولة الصينية. بل كانت بكين على أتم استعداد لإفساد العلاقات الدبلوماسية، لاستعادة مينغ وانجو، كبيرة المسؤولين الماليين للشركة، بعد اعتقالها في كندا. وبعد فرض عقوبات عليها، تدخلت الدولة بمنح «هواوي» دعماً بمليارات الدولارات، وساعدت في تحفيز ذراعها لأشباه الموصلات. ويكمن السؤال فيما إن كانت «هواوي» قبلت بالتزامات لقاء هذا الدعم.
ولطالما كان هيكل ملكية الموظفين غير الاعتيادي لدى «هواوي» محلّ جدل، لكونه غير مباشر. ويملك الموظفون وحدات ظل أصدرها كيان يسيطر في حقيقة الأمر على الأسهم. أما الجوانب القانونية، من ناحية أخرى، فهي ليست ذات صلة. ما يهم هو إيمان الموظفين بملكيتهم للأسهم، ويتصرف كلا الجانبين كأنما يمتلك الأسهم بالفعل. وينخرط موظفو «هواوي»، كل بضعة أعوام، في عملية معقدة لانتخاب ممثلين عنهم، يختارون أعضاء مجلس الإدارة.
ويتمتع رين، المؤسس، ببعض صلاحيات الفيتو وسيطرة مؤثرة لا تخضع للشك، مع شيوع تأثير محدود للموظفين على إدارة الشركات التي يملكونها حول العالم.
وإذا ما كانت «هواوي» شركة خاصة كما تقول، فلك أن تتخيل ما يعنيه تجسسها على عملائها أو تخريبها لشؤونهم. وتخبر «هواوي» موظفيها بأنهم الملّاك، لكنها تخبرهم أيضاً، في سوق شديدة التنافسية، بحاجتهم للتركيز على احتياجات العملاء، لذلك، فقد حققت نجاحاً ملحوظاً بفعل ذلك. من ناحية أخرى، تُخبر «هواوي» الجميع بأن الأمن السيبراني يشكّل أولوية قصوى لديها، وأن ادعاءات الاستخبارات الأجنبية لها زائفة.
ويمكن للدولة أن تحمل «هواوي» على التجسس، أو قد يشعر الموظفون داخل الشركة أن من واجبهم القيام بذلك. لكن فعل مثل هذا الأمر سيأتي بمخاطر لا يُستهان بها، لأن انكشاف ذلك سيكون بمثابة خيانة لكافة الوعود التي قطعتها الشركة لعملائها، وأيضاً لكل قيمة تدعي الشركة بأنها تؤمن بها.
هل يعني هذا أن شراء «هواوي» آمن؟ ليس حقاً. لكن بدلاً من اعتبار «هواوي» شريرة، يجب النظر إليها باعتبارها ضحية، عالقة وسط خلاف سياسي لا ناقة لها فيه ولا جمل.
وربما يكون مُقدراً للصين والغرب الانقسام إلى مدارات تكنولوجية منفصلة. لكن الجانب الخاسر، مع الأسف، سيكون الشركات الخاصة على جانبي الانقسام، وهي التي تحاول بذل ما بوسعها لجعل العالم مكاناً أفضل. لذلك، لا تشيطنوا «هواوي» لمجرد كونها صينية.